قراءة في القرار الأميركي بشأن الجولان السوري المحتل وفي ردود الأفعال الدولية الرافضة
حسام الدين آلا
مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة في جنيف
التحليلات التقليدية تضع القرار الأميركي في خانة رغبة ترامب بضمان دعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة في مواجهة الأزمات الداخلية التي تثقل كاهل إدارته، وهي أزمات فاقمتها هيمنة الحزب الديمقراطي على مجلس النواب الأميركي وقدرته على تهديد إدارة ترامب قبيل الانتخابات الأميركية المقبلة عام 2020
وهذه التحليلات وجيهة لكونها تبني على معطيات لطالما شكلت عوامل أساسية في القرارات الأميركية تجاه الشرق الأوسط التي تضع مصالح إسرائيل فوق أي اعتبار
يطرح قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، جملة من التساؤلات عن خلفيات هذا القرار وتبعات السلوك المتهور للرئيس الأميركي الذي يضع المنظومة الدولية أمام مخاطر جدية وضغوط غير مسبوقة
وتشير عاصفة الاحتجاجات الدولية إلى حجم الإرباك الذي تسبب به القرار الأميركي ودفع الكثير من الدول للتنديد به والتعبير عن رفضه على خلفية انتهاكه لقواعد القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، التي تتحمل الولايات المتحدة - الدولة الدائمة العضوية في المجلس- مسؤولية خاصة عن تنفيذها، بما فيها القرارين 242 (1967) و497 (1981) اللذان اعتمدا بموافقة وتأييد الولايات المتحدة، وهذين القرارين، وأكدا الوضع القانوني للجولان باعتباره أرضاً سورية محتلة، والمبدأ الراسخ في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة القاضي بعدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة
التحليلات التقليدية تضع القرار الأميركي في خانة رغبة ترامب بضمان دعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة في مواجهة الأزمات الداخلية التي تثقل كاهل إدارته، وهي أزمات فاقمتها هيمنة الحزب الديمقراطي على مجلس النواب الأميركي وقدرته على تهديد إدارة ترامب قبيل الانتخابات الأميركية المقبلة عام 2020
وهذه التحليلات وجيهة لكونها تبني على معطيات لطالما شكلّت عوامل أساسية في القرارات الأميركية تجاه الشرق الأوسط التي تضع مصالح إسرائيل فوق أي اعتبار، إلاّ أن ردود الفعل الواسعة والرافضة للقرار الأميركي تعكس قلقاً حقيقياً يكتنف غالبية دول العالم من مخاطر المواقف الأحادية المتهورة للرئيس الأميركي ومن تبعات الخط المتشدد في عدائه للأمم المتحدة واستهتاره بسيادة القانون الدولي في العلاقات الدولية
كما تعكس افتراقاً بين مواقف الولايات المتحدة وحلفائها بشأن الإلتزام بالتعددية في التعامل على الصعيد الدولي مع التحديات المشتركة، في مقابل إصرار الولايات المتحدة على انتهاج مقاربة أحادية تتجاهل مصالح حلفائها وتزدري النظام الدولي القائم على قواعد القانون والشرعة الدولية التي أرستها منظومة الأمم المتحدة
وقد تجلى هذا الخلاف منذ الأيام الأولى للإدارة الأميركية الحالية في العديد من المحطات الأساسية، بدءاً من قرار ترامب الإنسحاب من اتفاقية تغير المناخ التي أرست أطراً تعددية متفق عليها لمواجهة مخاطر تهدد بإغراق دول ومدن بأسرها وإختفائها من الوجود
وبالمثل شكّل قرار ترامب بالانسحاب الأحادي من "خطة العمل الشاملة المشتركة"، المعروفة بإسم الإتفاق النووي الإيراني، محوراً آخر لإختلاف المصالح والمواقف على طرفي الأطلسي مع إصرار الولايات المتحدة على إعادة فرض عقوباتها الأحادية على إيران وتهديدها العابرة للحدود بمعاقبة الدول والشركات التي لا تلتزم بالعقوبات الأميركية
وفي السياق نفسه، فإن قرار إدارة ترامب بتبني عقيدة استراتيجية جديدة تقوم على الردع النووي وعلى تطوير أنماط جديدة من الأسلحة النووية التكتيكية والاستعداد لاستخدامها في مواجهة المخاطر التي تشكلها روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، التي صنفتها الإستراتيجية المذكورة باعتبارها دولاً معادية للولايات المتحدة، تضع العالم على حافة سباق تسلح نووي جديد وتضيف مزيداً من القلق حول تبعات عدم اكتراث الولايات المتحدة بإلتزاماتها التعاقدية الدولية بشأن نزع السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل
وهذا سلوك يعبّر عنه أيضاً تهرب الولايات المتحدة من الإلتزام بالمواعيد المحددة للتخلص من أسلحتها الكيميائية، واستمرارها في امتلاك ترسانة من الأسلحة الكيميائية هي الأكبر في العالم
وكذلك هو الحال مع قرار إدارة ترامب الإنسحاب من اتفاقية القوى النووية متوسطة المدى (INF) وهو قرار يهدد الأساس الذي تقوم عليه منظومة الأمن الإستراتيجي في أوروبا
ومن المثير للسخرية أن الولايات المتحدة، التي عارضت ترؤس الجمهورية العربية السورية العام الماضي لمؤتمر نزع السلاح في جنيف بذريعة تخوفها من استغلال سوريا رئاستها للمؤتمر لترويج أجنداتها السياسية ولفرض مواقف تستهدف إسرائيل داخل المؤتمر، باعتبارها الطرف الوحيد في الشرق الأوسط الرافض للإنضمام إلى أي من الإتفاقيات والمعاهدات الدولية المعنية بنزع أسلحة الدمار الشامل ومنع انتشارها، وهي اتفاقيات تم التفاوض عليها داخل مؤتمر نزع السلاح، فإن الولايات المتحدة نفسها تستغل رئاستها الحالية للمؤتمر لتسويق اتهاماتها السياسية ومواقفها من القضايا المطروحة على أجندة المؤتمر، وتستمر بالتواطؤ مع السلوك العدواني الإسرائيلي ونشاطاته وبرامجه غير المشروعة في مجال أسلحة الدمار الشامل
وينسحب هذا السلوك الأحادي، الممعن في ازدراء الأمم المتحدة وقراراتها، على موقف إدارة ترامب بالإنسحاب من اليونسكو ومن مجلس حقوق الإنسان ومن الميثاق العالمي للهجرة وتصويتها ضد الميثاق العالمي للاجئين بسبب عدم الإستجابة للشروط الأميركية، وهي مواقف تعكس سياسة ترامب ورؤيته الضيقة لمصالح الولايات المتحدة وتترجم المقاربة العبثية لصقور إدارته الذين لايؤمنون سوى بمنطق القوة واستخدامها في إدارة العلاقات الدولية، وفي مقدمتهم مستشاره للأمن القومي جون بولتون
إن نجاح الجيش العربي السوري في حسم الأوضاع الميدانية وإعادة بسط سلطة الدولة السورية على الجزء الأكبر من الجغرافية السورية، لاسيما في الجنوب السوري الذي شكّل ساحة الرهان الأساسية لإسرائيل، وإفشال قدرتها على حصد ثمار استثمارها بدعم الإرهاب ومحاولاتها لفرض أمر واقع يعزل سوريا عن الجولان السوري المحتل، والإنتخابات الإسرائيلية التي يمكن أن تهدد مصير نتنياهو السياسي، كانت دوافع محركة لتسريع الضغوط لإعلان الولايات المتحدة اعترافها بضم الجولان السوري المحتل واستثمار ذلك سياسياً في الإنتخابات الإسرائيلية
وقد مهدت إسرائيل والولايات المتحدة لهذا القرار بعدد من المحاولات الفاشلة لإسقاط القرارات المتعلقة بالجولان السوري المحتل من جدول أعمال بعض المنظمات والهيئات الدولية في جنيف مثل مجلس حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية، وهي محاولات انطلقت من سوء حسابات بشأن قدرة سوريا على حشد الدعم لحقوقها القانونية والسيادية في أرضها المحتلة
فشلت تلك المحاولات خلال اجتماعات المجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية بداية العام الحالي، وفشلت خلال الدورة الأربعين لمجلس حقوق الإنسان عندما تبنى المجلس، رغم الضغوط الأميركية الهائلة، قراراً هاماً، بعد يوم واحد من إعلان الرئيس الأميركي عن قراره بشأن الجولان، يؤكد على الموقف الدولي الرافض للإحتلال الإسرائيلي للجولان السوري المحتل ولمحاولات فرض الولاية القانونية والإدارية الإسرائيلية عليه، ويؤكد على الوضع القانوني للجولان باعتباره أرضاً سورية محتلة، وعلى أن كافة التدابير والإجراءات التي تتخذها السلطة القائمة بالإحتلال بهدف تغيير طابع الجولان المحتل ووضعه القانوني لاغية وباطلة لا أثر قانونياً لها ويطالب بالتراجع عنها باعتبارها انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ولإتفاقية جنيف الرابعة، ويطالب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بعدم الإعتراف بأي من تلك التدابير
كما يطالب إسرائيل بوقف استيطانها الإستعماري غير المشروع في الجولان السوري المحتل وبالتوقف عن نهب موارده الطبيعية، وبتمكين مئات الآلاف من السوريين النازحين من أهالي الجولان المحتل بالعودة إلى ديارهم واستعادة ممتلكاتهم. وهذه المواقف عبر عنها بشكل أو بآخر ممثلو 14 دولة من أصل 15 من أعضاء مجلس الأمن خلال الجلسة التي عقدها المجلس يوم 27 آذار/ مارس 2019 بناء على طلب الجمهورية العربية السورية لمناقشة التداعيات المتصلة بقرار الرئيس الأميركي غير القانوني الإعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، وبيّنت عزلة المواقف الأميركية على الصعيد الدولي
ومن جانب آخر، يطرح القرار الأميركي تساؤلات حول دور الولايات المتحدة وقدرتها على المساهمة في صنع السلام في المنطقة، حيث تناقض السياسة الأميركية الراهنة الأسس التي قامت عليها عملية السلام في الشرق الأوسط، والتي اتخذت من قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، لاسيما القرارين 242 (1967) و338 (1973) ومن مبدأ الأرض مقابل السلام مرجعية لتحقيق السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، وتخالف تعهدات الإدارات الأميركية السابقة ومضمون مباحثات السلام التي التزمت إسرائيل خطياً خلالها بالإنسحاب الكامل من الجولان السوري المحتل
وبات من الواضح أن قرار ترامب يأتي في سياق سياسة ممنهجة تتبعها الإدارة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وفقاً للرغبات الإسرائيلية بتكريس إحتلالها للأراضي العربية وإنشاء دولة يهودية خالصة، وهي سياسة يتم الترويج لها إعلامياً في إطار ما يسمى بصفقة القرن التي لا تزال غامضة الملامح والأسس باستثناء دورها الواضح في إنهاء مبدأ الأرض مقابل السلام واستبداله بالتطبيع المجاني المتصاعد مع المحتل الإسرائيلي دون مقابل
هذه السياسة بدأ تنفيذها مع إعتراف ترامب بالقدس "عاصمة أبدية" لإسرائيل العام الماضي، وسعيها لتصفية حق العودة للاجئين الفلسطينيين عبر وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تمهيداً لتوطينهم في دول أخرى، مروراً بقرار ترامب الإعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، الذي ترافق مع نزع الإدارة الأميركية صفة الأرض المحتلة عن الأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل واستبدالها في التقارير الصادرة مؤخراً عن وزارة الخارجية الأميركية بتعبير الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل تمهيداً لإعلان إسرائيلي لاحق بضم الضفة الغربية والكتل الإستيطانية فيها لإسرائيل كما يروج نتنياهو في حملته الإنتخابية. وقد أكدت وزارة الخارجية والمغتربين السورية في رسالة وجهتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن بتاريخ 22 آذار/مارس 2019 أن الإدارة الأميركية الحالية "أنهت رسمياً الدور الذي كانت تدعيه باعتبارها (وسيطاً) في أية عملية سلام في الشرق الأوسط، وباتت مواقفها متطابقة مع سلطات الإحتلال الإسرائيلي في ازدراء القانون الدولي وخرق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة"
قرار الرئيس الأميركي لن يغير من الوضع القانوني للجولان السوري المحتل، لأنه محصن بقرارات دولية تؤكد الحق السيادي السوري فيه، كما هو محصن بالشعب السوري وبإرادة أبناء الجولان السوري المحتل الذين لم تتمكن 52 سنة من الممارسات القمعية لسلطات الإحتلال من إضعاف انتمائهم لوطنه الأم ومن تمسكهم بهويتهم الوطنية السورية وإصرارهم على إنهاء الإحتلال لهذه البقعة الغالية من الأرض السورية، ومحصن بالجيش العربي السوري الملتزم بتحرير الجولان السوري المحتل وكامل الأراضي السورية من الإرهاب ومن الوجود الأجنبي غير المشروع. واستعادة الجولان السوري المحتل من الإحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل التي يكفلها القانون الدولي تبقى على رأس أولويات الدولة السورية
ومع تسارع خطوات الإدارة الأميركية لشرعنة الإحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة يتوجب العمل على استكمال تحصين وضع الجولان السوري المحتل بخطوات ديبلوماسية إضافية تبني على الزخم الدولي القائم وعلى الموقف القانوني والسياسي الذي يؤكد الحق السيادي الصلب للجمهورية العربية السورية في جولانها المحتل. وغني عن القول أن أي تحرك ديبلوماسي وسياسي يضع الدول العربية أمام مسؤولياتها في هذا التوقيت، ولن تقتصر مفاعيله على تأكيد الحقوق العربية وتثبيتها، بل ستمتد للمساهمة في مواجهة مساعي الولايات المتحدة لتقويض سلطة ومصداقية القانون الدولي باعتباره الأساس الذي تقوم عليه منظومة العلاقات الدولية