على سرير أسود، تستلقي فتاة في أوّل عمرها، تحرّك أصابع أقدامها بشكل مُتسارع، وتتمتم بشفاهها كلمات لم أفهمها، وعيناها مفتوحتان قليلاً، على وجهها دم ممسوح، وعلى يديها دم ينزف.. واحدة من عشرات الجرحى الذين غصّت بهم مشفى المجتهد وسط دمشق، والتي استقبلت أكثر من خمس وثلاثية ضحية قضوا اثر سقوط قذيفة صاروخية أطلقها إرهابيون على سوق شعبي في حي كشكول في أطراف مدينة جرمانا
لا تقوى هذه المفجوعة على الحراك، فقدت أمّها التي كانت من المفترض أن ترافقها إلى السوق كي يشتروا سويّة هدية عيد الأم، عشية الواحد والعشرين من آذار.. لم أعرف اسم هذه الفتاة الشاحبة، لكني أعلم أنها أمست يتيمة.. مسكينة هذه الفتاة
خلف هذا السرير، سريرٌ آخر، عليه أم ثكلى، أمست ثلكى للتو، فقدت هي الأخرى ابنها، وابن أخيها، كانت برفقتهما أيضاً لشراء هدية عيد لن يمرّ عليها مرة ثانية "ما عاد بدي هدية.. رجعولي ابني.." تهذو المرأة الفاقدة لملاكها.. لم تره بعد.. لن تراه أبدا
المشفى الذي لن أنسَ مشهد قاعته السفلى ما حييت، غصّ بعشرات الأسرّة.. حول كل سرير مجموعة من الأهل، بعضهم يصرخ، والبعض يضرب على وجهه، وآخرون انهاروا أرضاً من الحزن والبكاء..
وإلى آخر الممر، أكثر من عشرين سريراً، مغطّاة كلها بأغطية سوداء، تحت كل غطاء، اسم، ورقم، وجثّة هامدة.. تنتظرُ هذه الجثث برّاداً، البرادات ممتلئة عن آخرها.. على سرير منهم غطاء تدلّت منه يدٌ لا تتحرّك، عليها الرقم 17.. الرقم 17 يشير إلى حياة سابقة، لرجل أو امرأة
هلع وبكاء وصراخ ودماء على الأرض وعلى الجدران وسيارات الإسعاف لا تملّ حمل الجرحى والمصابين، وأمّهات ينتظرن انتهاء معاينة الطبيب الشرعي، كي يلقوا نظرة وداع في يوم حزين عاشته العاصمة دمشق
وجوه ممسوحة المعالم، غطّاها الدمع والصدمة والهلع، وآخرون جاؤوا للتو، يبحثون بين الأسماء عن أحبّتهم، بعضهم قرأ اسماً، وأنكر أنه يعرفه.. يصمتُ للحظات، ويصرخ بصوت يسمعه كل الحاضرون، ليطغى عليه صوت آخر، لمفجوع آخر، ويطغى عليهما صوت ثالث ورابع وخامس.. يصرخون حتى جرّحت الحناجر
أكثر من أربعين عائلة باتت ناقصة اليوم من أم أو من أب أو من ابنة.. وكلّما أعتقد أن الحرب واجهتنا بأقبح مشاهدها، أتفاجأ بمشهد أكثر إيلاماً وحُزناً وصدمة
خرجتُ من المشفى حاملاً أقدامي، خطواتي ثقيلة، أتجاهل ما أسمع وما أرى، أتظاهر بالقوّة، لكن شريط الحرب يمرّ سريعاً كلهيب نار يحرق العيون
إلى متى....
المصدر : ماهر المؤنس